قد يكون من الإجحاف الحديث عن العزلة والحياة لا زالت تنبض بكلّ احتمالات تجلّيها، ولقد كثرت المسميّات حول هذه الحالة التي تفرض نفسها عليك بسبب أمور كثيرة، بعضها خارج عن إرادتك وبعضها الآخر عن سابق تصوّر وتصميم منك. الوحدة أو العزلة أو الانكفاء أو البعد... سمّ الحالة كيفما شئت، فهذه التسميات وإن كان تعريفها مختلفاً فهي تصبّ في منبع واحد وهو أنّك وحدك مع كيانك.
لم يكن من السهل على أيّ منّا التّعامل مع كلّ الأحداث المتتالية التي أحاطت بنا من كلّ صوب، والتّي هدّدت وجودنا وطرحت عملية استفهام كبرى، لم نحن ما زلنا على قيد الحياة؟ ما المطلوب منّا؟ وما هي الرسالة التي لم تنته بعد وبالنسبة للبعض لم تبدأ بعد؟
هذه الأسئلة الوجودية تشكّل نفسها دائماً عند حدوث شيء ما، تتخطّاك كإنسان لك كيانك الخاص إلى فكرة أشمل، إلى وحدة متكاملة، إلى الإنسانية جمعاء. فتسير ومن دون أن تدري، أو بالأحرى تختار روحك مساراً تمشي فيه، تستند إلى حواسّك وغرائزك وأفكارك في محاولة فهم الدرب الذي تسلكه.
ومن دون أن تدري، تصل إلى ذلك المكان الذي كنت تتوّهم أنّه ليس لك، تخاف منه، من المجهول الذي يكتنفه، تصل إليه منهكاً تعباً، ترمي كلّ أحمالك وتعيش في الصّمت، في الوحدة المؤنسة، وتبقى في تلك البقعة آمناً حيث لا أحد يعرف أين أسوارها.
إنّها العزلة! تلك التي ترسم لك مسار يومك وأوقاتك وحتّى انفعالاتك وعواطفك، تسايرها أحياناً، فتفيض عليك بكلّ نعمها، من هدوء إلى صفاء، إلى راحة بال وسلام. فتبحث عمّا يليق بها، من جلسة طويلة لشرب القهوة تطالع فيها بعضاً ممّا يحدث في هذا العالم الكئيب، فتقرّر العودة إلى هدوئك رافضاً ما يعكّر صفو مزاج قهوتك، إلى سماع أغنية تأخذك إلى عوالم نفسك فتفتح لها جرار الوجدان، متأمّلاً اللحن والكلمة مستمتعاً بسمفونية الكون الحاضر بأطرافه، إلى كتاب تختلي به مع زمن يضرب لك موعداً مع الإثارة آخذاً منك حضورك وإمكانية استيقاظ وعيك بما يحيط حولك، إلى تأمّلٍ لا شيء فيه سوى روح تناجي السكينة ، تستلهم من فراغ هذا الكون ما يملأ هذا الفراغ الجميل .
إنّها العزلة! بكلّ ما فيها من جمال، من هدوء ورحابة صدر، تأخذك بين ذراعيها، تهدهد أحلامك الضائعة، تطبطب أوجاع عمر ضاعت منه السّبل في عيشه كما تتمنّى، فتجد فيها عمراً آخر يعوّضك عن كلّ ما فاتك. عليك أن تجاريها، تحضنها، تشكرها على وقتك معها وإلا وإن حاولت نكران جميلها ففي لحظة تستطيع أن تقلب عزلتها هذه إلى قلق وخوف، تناكفك، تخاصمك، تحوّل ثوانيك إلى ساعات، تقلقك، تهدّك تسحقك إن لم تهادنها وتستمع إليها.
أن تعي أن عزلتك هي فرصة وليست عقاباً هي الطريقة لتجادل بها مكنونات نفسك التي تحاول أن تثنيك عن فهم المطلوب منك، عن عيش الحياة على أنّها نعمة وهبة وأمانة.